ذكي نور عظيم الندوي
إنّ الحديث عن الفضلاء وذكر مناقبهم مما يُعتنى به في ميدان الكتابة والبيان من قديم الزمان، ويعتبره الناس من أشرف ما يعبّر به اللسان وينعقد لذلك المجالس واللجان، غير أنّه ينبغي أن يكون ذلك من طريق العلم والحكمة والعدل، ولا يُفتح بابه إلا بمفاتيح الإنصاف والاعتدال.
وبيان الفضائل إنما يُبنى على ما في صاحب الفضل من الكمال الذاتي والصفات العالية، لا على النيل من غيره أو تهوين قدر مخالفيه. أو رفع مقام شخصٍ بسبّ من سواه، فلا يعتبر ذلك لا من السنن العقلية ولا من الموازين الشرعية للتفضيل والإنصاف، بل هو دليل واضح على من يختاره بأنه سلك طريق الزيغ والانحراف. ومن تمام الفقه في الدين أن يُعرف الفضل لأهله، ويُعطى كل ذي حقٍ حقه، دون أن يُنتقص من غيره أو يُبنى التفضيل على تحقير دونه كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ( النحل: 90)
وإذا كان هذا المنهج مذمومًا في عامة الناس، فهو أشدُّ ذمًّا وأشدُّ خطرًا إذا تعلق بأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام رضي الله عنهم، الذين زكّاهم الوحي، ورضي عنهم ربّ العرش العظيم، وأثنى عليهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وفي كل مراحل حياته المباركة، قولًا وعملا وتقريرًا.
قال الله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (الأحزاب 33) وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ، رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ (التوبة 100) وقال أيضًا: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(الحشر 9–8)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيرُ الناس قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم.
فهل بعد هذا يحتاج أحد إلى إثباتٍ لفضلهم؟ وهل بعد تزكية الله ورسوله لهم يحتاج مقامهم إلى بناءٍ فوق أنقاض الآخرين؟! حاشا وكلا. لكنّ للأسف الشديد أنّ بعض الناس إذا أرادوا تعظيم أهل البيت الكرام لم يسلكوا طريق البيان النبوي، ولم يعتمدوا على النصوص الصحيحة، بل ساروا في طريق ذمّ الصحابة، والتقليل من منزلتهم، بل والتشكيك في عدالتهم وسبقهم، وكأنّ علوّ مقام أهل البيت لا يثبت إلا بإسقاط غيرهم! وهذا – والله – أعظم البهتان، وأشنع الطغيان، لأنّه ليس تعظيمًا لأهل البيت، بل هو طعنٌ في عدالة القرآن، وغمطٌ لمقام الصدّيقين والتابعين.
وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل إنّ هذا المسلك – في حقيقته – يتضمّن إساءةً بالغةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ذاته، لأنّ صحابته هم خاصته، وخيرته من خلقه، وأهل مودّته، ورفقاء دعوته، وخلفاؤه من بعده. فمَن طعن فيهم، فقد طعن في اختياره، وفي حكمته، وفي من أحبّهم ورضي عنهم. وما أفظع أن يقال: “إنّ أهل البيت لا يُعرف فضلهم إلاّ بذمّ الصحابة”، كأنّ النصوص من الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة قاصرةٌ عن بيان فضلهم! وهذا في حقيقته اتهامٌ للقرآن بالنقص، وتشكيكٌ في صدق السنة، وتحقيرٌ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ومخالفةٌ لما جرى عليه أهل البيت أنفسهم من المحبة والاحترام للصحابة الكرام.
فمن تأمّل منهج تنقيص الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لأجل ذكر فضائل أهل البيت من بعض مدعي العلم عرف أنّه يحمل في طيّاته عدة مفاسد:
أولًا: الطعن في النصوص الثابتة: فالقرآن والحديث قد أثبتا لأهل البيت والصحابة الكرام رضوان الله عليهم أعلى درجات الإيمان والتقوى، ولكن اذا ظهر أحد يقدّم روايات ضعيفة أو موضوعة ليشكك فيهم، فإنما يُكذّب الكتاب ويطعن في السنّة.
ثانيًا: جعل تعظيم أهل البيت قائمًا على بغض غيرهم: وهذا قلبٌ للحقائق، وتزويرٌ للتاريخ، فإنّ أهل البيت أنفسهم ما عرفوا إلا بمحبتهم للصحابة، وتوقيرهم لهم، وتقديمهم في الصلاة والمشورة والجهاد، فهل نُعظّم أهل البيت بما لم يعرفوه هم عن أنفسهم؟!
ثالثًا: فتح باب الفتنة والطعن في سلف الأمة: فمن طعن في الصحابة، فقد طعن في نقل الدين، لأنهم حملة الشريعة ورواتها، وإذا سقطت عدالتهم، سقط معها ثقة الأمة بكتابها وسنّتها، وهذا ما لا يقبله مؤمنٌ صادق.
رابعًا: اتهام الوحي والنبي بالنقص: فمن زعم أن فضل أهل البيت لا يثبت إلا بذمّ الصحابة، فقد اتّهم الوحي بالتقصير، والرسول صلى الله عليه وسلم بسوء الاختيار، وسلوك هذا الطريق طعنٌ غير مباشر في صاحب الرسالة وسيرته.
خامسًا: نشر سوء الظن بين الأمة: فمن أسّس التفضيل على العداوة، والغلوّ، والتنقّص، فتح بابًا للفتن، وأثار الشكوك في قلوب المسلمين، وقطع روابط المودّة التي أمر بها الله عزّ وجلّ في كتابه.
سادسًا: استخدام الكذب وتحريف النصوص: نرى بعض الناس يروي أخبارًا موضوعة، أو أقوالًا بلا إسناد، ثم يجعلها دليلًا على مقامٍ أو ملامٍ، وهذا ليس من طريق أهل العلم، بل من طرائق أهل الهوى والجهل.
ولهذا نقول لكل من أراد تعظيم أهل البيت بحق؛ اتبعوا طريقهم، واعرفوا شأنهم من خلال سيرهم، فإنهم ما عُرفوا إلا بالورع، والتقوى، والتواضع، وصدق المودّة للصحابة الكرام، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون، فإن كنتم تحبّونهم، فحبّوهم بما أحبّوا، واعرفوهم بما عُرفوا به، لا بما افتريتم عليهم أو نسبتم إليهم زورًا وبهتانًا.
ونظرا لما سبق يمكن القول بأن من سلك مسلك التفضيل عن طريق الطعن، فقد ضلّ عن سواء السبيل، ومن عظّم أهل البيت بذمّ الصحابة، فقد طعن في دين الأمة، وإن ظنّ أنه يُحسن صنعًا. ولا يتضح من هذا المنهج والأسلوب بأن فاعل ذلك يحب النبي أو أهل بيته، بل إن دلّ على شيء فإنما يدل على كراهيتهم وعداوتهم للصحابة الكرام،
والصواب أنه ينبغي لمن أراد نصرة أهل البيت،أن يتّبع ما ثبت فيهم من فضلٍ بالنصوص القطعية، وليدع عنه مسالك الفتن، ودروب البغضاء، فإنّ الحق لا يحتاج إلى باطل ليقوَّى، والنور لا يحتاج إلى ظلام ليُضيء.
ومن جمع بين محبة الصحابة والآل فقد جمع بين الكمال والاعتدال، وسلك طريق النبوة والوحي، وكان له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، ومن عدل عن ذلك فقد اتّهم النبوة في خيارها، والقرآن في بيانه، والسنّة في توجيهها، فليحذر المغالون والجاحدون من مغبة هذا السبيل، فإنّه لا يُورث إلا ضلالًا في الدين، وبُعدًا عن روح الإسلام وعدله وسلامه. ولأجل ذلك نجد أهل السنة والجماعة يُحبّون الصحابة وآل البيت جميعًا، ويُوالونهم، ويُثبتون فضلهم بما ثبت في النصوص، دون غلوٍّ أو جفاء، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: ويُحبّون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولّونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال الإمام مالك رحمه الله كما نقله ابن عبد البر في الاستيعاب: «من أصبح وفي قلبه غيظٌ على أحدٍ من الصحابة، فقد نقص عقله ودينه.