من نافذة التاريخ | دور “الرائد” الرائدة في تنمية السليقة الكتابية والوعي الفكري


د. محمد أكرم الندوي (أوكسفورد)

لم تكن اللغة العربية يومًا، منذ أشرقت شمسها على أرض الهند، مجرد أداة يتوسّل بها الناس إلى الحديث والكتابة، بل كانت شيئًا أبعد غورًا، وأعمق أثرًا، وأعظم منزلة في نفوس أبنائها، كانت، ولا تزال، ميراثًا حيًّا يتناقلونه كما يتناقلون عقائدهم، وتاريخهم، وذكرياتهم، وكانت نافذة مشرعة، لا تُغلق، يُطلّون منها على العالم العربي، ويستضيئون بما يتدفّق من خلالها من نور الفكر، وضياء الأدب، وصدى الحضارة الإسلامية.

ولم تكن دار العلوم لندوة العلماء في لكهنؤ، حين أنشئت، غافلة عن هذه الحقيقة، ولا كانت من المدارس التي تُفرّق بين تعليم اللغة وحياة اللغة، بل أدركت، منذ اللحظة الأولى، أنّ العربية لا تُعلَّم كما تُعلَّم القواعد الجافة، أو تُلقّن كما تُلقّن محفوظات الصغار، وإنما تُغرس في القلوب، وتُبثّ في النفوس، وتُربّى كما يُربّى الحسّ، ويُنشّأ الذوق، ويُهذَّب الفكر، حتى يُصبح الطالب لا يتكلّم بها فحسب، بل يحيا بها، ويُفكّر فيها، ويشعر بجمالها، ويتذوّق أسرارها.

ولذلك، ما وقفت الندوة عند حدود الدروس والمحاضرات، وما اكتفت بما يُلقى في القاعات المغلقة، بل جعلت من الصحف والمجلات لسانًا حيًّا يتكلّم باسم طلابها، ومنبرًا يُجاهرون عليه بما تعلّموه، وساحة يجرّبون فيها ملكاتهم، ويختبرون قدراتهم، ويُحاكون بها أهل العربية في بلادهم، لا بوصفهم غرباء عن لغتها، بل بوصفهم أبناء لها، وإن كانت ألسنتهم الأولى غيرها، وبيئتهم غير بيئتها.

ولم تكن صحيفة “الرائد” الصادرة في ندوة العلماء، يوم أُنشئت، مجرد صحيفة تُطبع وتُوزّع، بل كانت جزءًا من مشروع تعليمي عميق، أراد له أصحابُه أن يُخرّج أجيالًا من الكُتّاب والمتحدثين والمترجمين، الذين لا يكتفون بتعلّم اللغة العربية نظريًا، بل يعيشونها ويمارسونها ويكتبون بها كما يكتب بها أبناؤها في البلاد العربية.

ومن طريف الأمر أن هذه الصحيفة، التي وُلدت في قلب الهند، أصبحت في أعين كثير من المتابعين العرب أشبه بمنبر ثقافي يعكس صورة المسلمين الهنود، وينقل إلى العالم العربي صوتهم، وهمومهم، وأفكارهم، بل ويُقدّم طلاب ندوة العلماء أنفسهم إلى القرّاء العرب، لا كغرباء عن لغتهم، بل كمشاركين في صناعتها.

وقد أتيح لي، وأنا أتتبع ذات يوم ما نشرته المجلة من أعداد قديمة عبر الموقع الرسمي لدار العلوم لندوة العلماء، أن أسترجع في ذهني طرفًا من تلك الأيام، حين كنّا طلابًا في رحابها، نخطّ أولى محاولاتنا في الكتابة العربية، ونُمارس الترجمة من الأردية والإنجليزية إليها، وكأنّنا نتعلم كيف نُلقي بأنفسنا في بحر هذه اللغة العظيمة، نُخطئ حينًا ونُصيب حينًا، غير أنّ شيخنا الأستاذ السيد محمد واضح رشيد الندوي، رحمه الله، كان يُمسك بأيدينا، يُعلّمنا كيف نسبح، كيف نُجيد الغوص في أعماقها، وكيف نخرج منها بما يُرضي ذوق القارئ، ويُقنع عقل الناقد، ويُشبع وجدان الأديب.

كان الأستاذ الجليل رجلًا جمع الله له بين عمق العلم، وسعة الثقافة، وحسن الخلق، وبُعد النظر، وقد استقرّت اللغة العربية في نفسه استقرار المحب في قلب محبوبه، فلا يكاد يفرّق بين حياته الشخصية، وعمله التربوي، وعشقه لهذه اللغة، وقد كان رئيسًا لتحرير صحيفة “الرائد” في تلك الأيام، لكنه لم يكتفِ بإدارة الصحيفة والإشراف على محتواها، بل حوّلها إلى مختبر تربوي، يُدرّب فيه الطلاب على الترجمة والكتابة، يُصحّح أعمالهم، يُناقشهم، يُعدّل ويُهذّب دون أن يُلغِي شخصياتهم، أو يُثبّط هممهم، بل كان يُكرّم المتميز منهم بنشر عمله، فيشعر الطالب بذلك أنّه انتقل خطوة إلى الأمام، وأنّ لغته لم تَعُد حكرًا على دفاتر الدراسة، بل صارت تجد طريقها إلى صفحات تُقرأ، وعقول تُتابع، ونقّاد يُقيّمون.

ولقد كانت طريقته في التصحيح ضربًا من الفن الصعب، إذ لم يكن يُعيد كتابة النصّ من أوله إلى آخره، فيطمس بذلك شخصية الطالب، بل كان يُبقي للنصّ بنيته، ويُجري عليه من التهذيب ما يُخرجه إلى النور، كأنّه قطعة من الجمال، احتاجت إلى صقلٍ فأتقنه، وإلى تعديل فأنجزه، دون أن يُشعر صاحبها بأنّها لم تعُد له.

وكان إلى ذلك رجلًا هادئًا، كريم الخلق، لا يعرف التهكّم، ولا يُمارس القسوة، بل يتعامل مع أخطاء الطلاب كما يتعامل المعلّم مع خطوات الطفل الأولى، يُشجّع، يُسدّد، يُصحّح، ويُعيد الكرّة صابرًا، حتى يُتقن الطالب الكتابة، وتُصبح العربية على لسانه وقلمه أيسر من كثير من أبناء بيئته.

وقد شاء الله أن يُثمر هذا الجهد، فخرج من تحت يديه، ومن بين صفحات صحيفة الرائد، ثُلّة من الكُتّاب والمثقفين، الذين استطاعوا أن يُثبتوا للعالم العربي أن الهند ليست بعيدة عن العربية، وأنّ أبنائها إذا ما أُحسن تعليمهم، وتوفّرت لهم البيئة التربوية الملائمة، فإنهم قادرون على الكتابة بها، والإبداع فيها، والمشاركة في قضايا الأمة، لا بلسان أعجمي متلعثم، بل بلغة سليمة، واضحة، راقية.

وما من قارئ يُطالع أعداد صحيفة “الرائد في المدة الممتدة على 67 عامًا، إلّا يلحظ هذا التقدّم الواضح في مستوى كتابات الطلاب، وتطوّر أساليبهم، واتساع مداركهم، بل ووعيهم بقضايا المسلمين في الهند والعالم، حتّى صارت الصحيفة لا تنقل أخبارهم وحدهم، بل تُقدّمهم للعالم العربي جزءًا من قضاياه، وصوتًا من أصوات أمّته، وساهمت بذلك في سدّ فجوة ظلّت قائمة طويلًا في الإعلام العربي، فيما يتّصل بحضور المسلمين في شبه القارّة الهندية.

وقد أدرك الأستاذ واضح رشيد الندوي، رحمه الله، أنّ تعليم اللغة لا ينفصل عن بناء الفكر، ولا ينفصلان معًا عن غرس المبادئ والقيم، فحرص في كل ذلك على أن تكون العربية أداة معرفة، ومنبر رأي، ووسيلة تواصل حضاري، لا مجرّد لغة تُتعلّم لتُحفظ في امتحان، وتُنسى بعده.

وإذا كان لي أن أُعبّر عن أثر هذه التجربة في حياتي، وفي حياة كثير من زملائي، فإنّي أقول مطمئنًا إنّها لم تُنمّ فينا قدرة لغوية فحسب، بل كوّنت فينا وعيًا فكريًا، وجعلتنا ندخل إلى العالم العربي لا كمستمعين فحسب، بل كمشاركين، وكأنّنا نُحقّق، بما تعلّمناه، وبما خطّته أقلامنا، ذلك الأمل القديم الذي سعى إليه روّاد ندوة العلماء، في أن تكون العربية في الهند حيّة ناطقة، وأن يكون لأبنائها موضع في قلب الأمة وثقافتها وحضارتها.

وما كان ذلك ليكون لولا تلك الروح التي حملها الأستاذ الندوي في صدره، وجعلها نبراسًا لطريقه، وطريق طلابه، الذين لا يزال كثير منهم، إلى اليوم، يكتبون بالعربية، ويُفكّرون بها، ويُشاركون في نهضتها، كأنّهم أبناء ضاد بالميلاد، لا بالتعلّم وحده.



Source link

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back To Top