التوجيه الإسلامي | أمراض المجتمع وعلاجها (12)


الشيخ بلال عبد الحي الحسني الندوي

[تعريب: سعد مبين الحق الندوي]

النميمة:

النميمة داءٌ خطير ينخر في جسد المجتمع، فيبعثر صفوفه، ويفسد علاقاته، ويزرع العداوة والبغضاء في القلوب، وقد ينتهي أثرها – والعياذ بالله – إلى سفك الدماء وهدم البيوت، فوظيفة النمّام أن يحمل الكلام بين الناس، وينقل ما قيل، صدقًا كان أو كذبًا، إلى الطرف الآخر لا بقصد الإصلاح، بل ليؤجج نار الخلاف، ويزيد الفجوة، فيثير الضغائن، ويوقظ الفتن، فوصفه القرآن بأنه “مشاء بنميم”، أي كثير المشي بالنميمة، لا يقرّ له قرار إلا أن ينقل الشر، ويزرع الفساد، وورد في ذمّه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ” المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبّة”. (مسند أحمد: ج 6/ 459)

لا يعرف النمّام طعم الراحة، فلا هو يهنأ بعيش، ولا يترك غيره في طمأنينة، وقد يبلغ به داء النميمة أن يتحيّن الفرص، ويراقب المجالس خفية، ويتنصّت على الأحاديث في صمت، لا ليصلح أو يعتذر، بل ليجمع ما يفرّق به بين القلوب، ويؤجّج به نار الخصومة والعداوة، أمثال هؤلاء وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بـ “القتّات” وهو الذي يسترق السمع خلسةً لينقل الكلام خُبثًا ومكيدة، فجاء في الحديث الشريف: “لا يدخل الجنة قتات”.(صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب ما يكره من النميمة:6056). هؤلاء الناس يهوّلون الكلام،ويزيدون عليه من البهارات ما يغيّر نكهته الأصلية، حتى يبدو للمستمع غير ما قيل، فيقع في فخّ الظنون وسوء الظن، ويورث في قلبه حقدًا أو قطيعة.

وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين، فقال: “إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة”. (صحيح البحارى: كتاب الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستر..:216، صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول:703)

إنه لذنبٌ جامع لآثام ومعاصي، غيبةٌ وبهتان، وكذبٌ وتجسس، وإيذاءٌ وخيانة، وإفسادٌ بين الأحبة، ونشرٌ للعداوة، النمّام حين يمشي بين الناس، لا يحمل خبرًا فحسب، بل يحمل نارًا تُوقدُ بين القلوب، وتلتهم الألفة، وتُبدد السلام .

والمؤسف أن كثيرًا من الناس يستخفّون بهذا الذنب، فلا يرونه من الكبائر، مع أنه باب من أبواب الفتنة، وقد قال الله تعالى:” والفتنةُ أشدُّ من القتل”. (البقرة:191)

وقد بيّن القرآن الكريم السبيل للوقاية من هذا الداء الخبيث، فأرشد إلى التثبت والتبيّن، وعدم الانسياق وراء كل ناقل خبر، فقال تعالى:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا، أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ” (الحجرات: 6) بل وصرّح في موضع آخر بالنهي عن الإصغاء لأهل السوء والفساد، فقال: ” وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ، هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ” (القلم:10–11 )

فمن جهةٍ، لا بدّ لكل فردٍ أن يبتعد عن هذا الإثم العظيم، وأن يُبادر إلى التوبة منه، لأنه مما يفسد الأعمال، ويهلك للقلوب، ومن جهةٍ أخرى، لا بدّ من اتخاذ الحيطة والحذر لحماية المجتمع من شرّه، فلا يُصدّق بكل ما يُروى ويُسمع، بل يجب التثبُّت والتحقيق، والحذر من مخالطة أولئك الذين ديدنهم إشعال نار الفتنة، وبثّ العداوة، وزرع الشقاق بين القلوب.

اللمز:

لقد شدَّد القرآن الكريم في النهي عن السخرية واللمز، وعدَّهما من الأخلاق الدنيئة التي تفتك بأواصر المحبة، وتُفسد نسيج المجتمع، قال تعالى في سورة الحجرات:” وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ” (الحجرات:11)

فاللمز هو كل قول لاذع، أو إشارة خفية، أو نظرة ازدراء تحمل في طيّها الاحتقار والتقليل من شأن الغير، سواء كان ما يُشار إليه من العيب موجودًا بالفعل أم لا، فإن وُجد، فذكره مذموم، لأنه فضيحة وتشهير، وإن لم يوجد، فالأمر أعظم، لأنه بُهتان وافتِراء، وفي بعض الروايات ورد أنّ من نسب عيبًا إلى غيره، فإنّه لا يُقبض حتى يُبتلى بذلك العيب نفسه.

فعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “مَنْ عَيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يَعْمَلَهُ “قَالَ أَحْمَدُ: قَالُوا: مِنْ ذَنْبٍ قَدْ تَابَ مِنْهُ. (سنن الترمذي: أبواب صفة القيامة، باب من عير أخاه بذنب:2629) فكأنّما من عيّر أخاه بذنبٍ أو نقصٍ، سُلِّط عليه البلاء، حتى يذوق مرارته، ويعلم أنه لا يسلم أحدٌ من النقائص، وأن ستر العيوب نعمة تستوجب الشكر لا التكبر.

لقد جاء التعبير القرآني في النهي عن اللمز بغاية من البلاغة والدقة، حيث يقول سبحانه:” وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ”(الحجرات:11) فقد عبّر عن المؤمنين بـ” أنفسكم”، مع أنّ الخطاب موجّه لبعضهم ضدّ بعض، ليُرَسِّخ معنى الأخوة والإيمان، ويُشعر السامع أن انتقاص أخيه هو في الحقيقة انتقاص لنفسه، وسبُّه إيذاءٌ لذاته، كما أن هناك إشارة لطيفة إلى أنك إن أسأتَ إلى أخيك، فلا تستغرب إن رُدَّ عليك بالمثل، فالشرّ إذا خرج منك، عاد إليك.

وبعد هذا التحذير البليغ من اللمز، جاء النهي عن مناداة الناس بالألقاب السيئة، فقال تعالى:” وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ” (الحجرات:11) فالقرآن الكريم يُعلّمنا أن نحترز من كل ما يُسِيء إلى مشاعر الآخرين، ولو بكلمة، أو بلقبٍ يحمل في طيّاته سخرية أو تحقيرًا، أو يُذكِّر المرءَ بعيبٍ فيه، خَلقيًّا كان أو خُلقيًّا، فكم من لقبٍ لُصق بإنسان لعاهةٍ لا يد له فيها: كالأعمى، أو الأعور، أو الأصمّ، وهي كلمات تُوجِع القلب، وتمزّق الكرامة، وتُخلِف في النفس ألمًا لا يُنسى.

وأدهى من ذلك أن يُنادى شخصٌ بلقبٍ اكتُسب بسبب معصية تاب منها، كأن يُقال له “سارق” أو “فاسق” رغم توبته الصادقة، وسلوكه طريق الاستقامة، فهل من الإنصاف أن نُعَيِّره بذنبٍ محاه الله عنه؟

إن كل اسم أو لقبٍ يجرح مشاعر الآخرين، أو يذكّرهم بما يكرهون، يجب أن يُجتنب، لأن كرامة المسلم عند الله عظيمة، كما جاء في الحديث “ولا أن يعيره بحسب مذموم ولا حرفة دنية ولا بشيء يثقل عليه إذا سمعه فإن إيذاء المؤمن في الجملة حرام”.(شعب الإيمان للبيهقي: تحريم أعراض الناس……: (6669)

فمن الجدير بالذكر أن الحقوق في الشريعة على نوعين: حقٌّ لله تعالى، وحقٌّ للعباد.

فإن الله يحب التوبة، فيعفو ويصفح، فإن العبد إذا أذنب وتاب بصدق، فإن الله عز وجل يقبل توبته، لأنه توّابٌ رحيم، يحب التوّابين، ويحب المتطهرين.

أما حقوق العباد فالأمر فيها أدق وأشدّ، إذ لا تُقبل التوبة منها قبولًا تامًّا إلا إذا أُدِّيَ الحقّ لصاحبه، أو استُرضي واستُحلّ، فمن أراد توبة نصوحًا، فليطهّر ظاهره وباطنه، وليطلب المغفرة من ربه، والعفو من خلقه، فإنها شروطٌ لا تكتمل التوبة إلا بها.

إنها لآفة كبرى تنخر جسد أمتنا كنخر السوس في الخشب، ابتُلي بها المسلمون حتى غدت من الطبائع المألوفة، لا يُستنكَر وقوعها، ولا يعدُّها كثيرٌ من الناس خطيئة، بل ما يزيد الأمر سوءًا أن بعض أهل الدين والصلاح يقعون فيها من حيث لا يشعرون، فيُسيئون من حيث أرادوا الخير، ويشوّهون صورة الإسلام من حيث حسبوا أنهم يُحسنون صنعًا.

وهذا أمرٌ جللٌ يجب أن تُقرَع له أجراس الإنذار في قلوب المؤمنين، وأن يُدرك المسلمون جميعًا أنهم أمام لحظةٍ فاصلةٍ تستدعي وقفة صادقة مع الذات، ومراجعة شاملة للمسار، حتى يُصبح المجتمع الإسلامي مرآةً صافيةً تعكس جمال الإسلام وكماله.

إذا كان الله تعالى قد نهى في كتابه العزيز عن السخرية، وعن اللّمز، والتنابز بالألقاب، وهي من الأفعال التي تمسّ كرامة الإنسان، وتؤذيه بالكلمة أو الإشارة، فكيف يكون الحال إذًا فيمن يأكل حقوق الناس ويعتدي على دمائهم وأموالهم؟! لا شكّ أن ذلك أعظم جرمًا وأشدُّ إثمًا، وقد جاءت الأحاديث النبوية تُبين فداحة هذا الذنب، وتُصوّر عاقبته في يوم لا ينفع فيه مال ولا جاه.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أتَدرون ما المُفلِسُ؟”.قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع.

فقال صلى الله عليه وسلم: “إنَّ المُفلِسَ من أمَّتي يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ، وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شَتمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضَربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِحَ في النارِ”. (صحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم: ٦٨٤٤)



Source link

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Back To Top