بقلم ملاك عقيل
«أساس ميديا»
في الشكل والمضمون، أُعطيت زيارة الموفد الأميركي توم بارّاك لعين التينة “المُنفصِلة” عن زيارتَيْه لرئيسَي الجمهورية والحكومة بُعداً سياسياً وتقنيّاً أوحى بوجود ملحق مكتوب تسلَّمه موفد الرئيس دونالد ترامب من رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.
لكن، وفق معطيات “أساس”، لم تكن هناك ورقة رديفة، بِخَتم “الحزب” أو الثنائي الشيعي، ولا سقوف مرتفعة ومتمايزة عن “السقف الرسمي”، المشارك بري بحياكة تفاصيله، بل إعادة تذكير وتأكيد، بالتنسيق مع الرئاسة الأولى، التهديدات الهائلة التي تحيط بالمنطقة، لا سيّما الملفّ السوري وتأثيراته الحتميّة على لبنان، وهو ما يستدعي، وفق الثنائي، مقاربة أميركية أكثر مرونة لملفّ لبنان.
يرى برّي أنّ منسوب الخطر الناجم عن أحداث سوريا ارتفع بشكل واضح بين زيارتَي بارّاك الثانية والثالثة للبنان، ونَقَل سوريا برمّتها إلى مقلب آخر، إضافة إلى عدم إمكان تجاوز واقع انغماس إسرائيل في خروقاتها الفاضحة للقرار 1701 وآليّته التنفيذية، فيما المطلوب من لبنان الانصياع التامّ لتسليم “كلّ السلاح”، من دون تقديم أيّ ضمانات (أميركية) مرتبطة أقلّه بانسحاب إسرائيل، كمرحلة أولى، من موقع واحد من المواقع الخمسة المحتلّة، ووقف اعتداءاتها فوراً، فيما “الحزب” نفّذ المطلوب منه جنوب الليطاني.
برّي: “الحزب” موافق!
ينقل مطّلعون تأكيدات أنّ برّي كرّر أمام الوسيط الأميركي موافقة “الحزب” على الآليّة التنفيذية للقرار 1701، وموافقته على البيان الوزاري للحكومة، وإعادة تأكيد موقفه الداعم من خلال جلسة محاسبة الحكومة قبل أيّام، واستعداد “الحزب” لتقديم المزيد “على طريق تسليم السلاح”، لكن ليس قبل قيام العدوّ الإسرائيلي بالمطلوب منه، حيث لا إمكان لإنجاح أيّ اتّفاق من طرف واحد فقط، وهو رأي الدولة اللبنانية، بأركانها الثلاثة.
التعليق العلني الوحيد الذي أعقَبَ لقاء برّي وبارّاك عَكَسه الموفد الأميركي من خلال وصفه اللقاء بـ”الممتاز”، داعياً اللبنانيين إلى “التحلّي بالأمل، ونحن نعمل قدماً للوصول إلى الاستقرار”.
لاحقاً، خلال مقابلة تلفزيونية على “الجديد” أعطى بارّاك شهادة ملفتة ببري مؤكداً أنّه “السياسي الأكثر ذكاءً وحنكة في السياسة والعارف بأمور لبنان والمنطقة وأيضاً الولايات المتحدة. لديه عقود من الخبرة، وهو يفهم هذه الحالات المعقّدة”. وبعدما استفاض في تأكيد أهمية سدّ الثغرات في اتفاق وقف إطلاق النار، جزم ردّاً على سؤال إذا إسرائيل ستشنّ حرباً على لبنان إذا لم يُسلّم الحزب سلاحه قائلاً: “أستطيع القول لكم. إسرائيل لن تشنّ حرباً جديدة على لبنان”، مؤكداً في الوقت نفسه بأنّ “الوقت يُداهمنا، ولدينا فرصة للتوصّل إلى حلّ واتفاق بين دول المنطقة، لذلك نحن نضغط بهذا الاتّجاه”.
أمّا أوساط عين التينة فأكّدت أنّ “التفاوض لم ينتهِ بعد، حتّى بعد مغادرة توم بارّاك الذي كان أصلاً على بيّنة من الخطوط العامّة للردّ اللبناني”. وتردّدت معطيات عن تأكيد برّي لزائره أنّ “الحزب” مستعدّ لخطوات حاسمة في مسألة سلاحه، وخلال مدّة زمنية محدّدة، في حال انسحبت إسرائيل من المواقع المحتلّة وأوقفت اعتداءاتها فوراً، وهو ما سيتيح للجنوبيين العودة الآمنة إلى قراهم، والبدء بإعادة الإعمار.
ضمانات “موثوقة”
حتّى موعد لقاء برّي وبارّاك في عين التينة أمس، كان رئيس مجلس النوّاب يُكرّر أمام زائريه استغرابه، الإيجابي، لبعض المواقف الصادرة عن مناوئين لـ”الحزب”، باتوا “يتفهّمون” تمسّكه بالسلاح، في هذه المرحلة الدقيقة والصعبة، ربطاً بأحداث سوريا، و”حمّام الدم” الذي أغرِقت فيه السويداء، في ظلّ عدم قدرة نظام أحمد الشرع، مع كلّ الدعم الدولي الذي يحظى به، على منع حدوث هذه الجرائم، أو الحدّ من تمدّد رقعتها، أو تقديم ضمانات بعدم تكرار هذه الأحداث الدموية التي تُرعِب الأقليّات في المنطقة.
بات بري يُسلّم بأنّ أحداث سوريا الدمويّة، بـ”نَفَسها” التقسيميّ أو الأقرب إلى التطهير العرقي، تقوّي موقف الدولة اللبنانية لجهة مطالبتها بالتسلّح بالضمانات “الموثوقة”، قبل تسليم رقبتها إلى الإسرائيليين، الأمر الذي تولّى بارّاك توضيحه بشكل مباشر عبر تأكيد عدم وجود أيّ ضمانات “ولا قدرة لنا على إرغام إسرائيل على فعل أيّ شيء”، بخلاف النَمَط الذي يتّبعه الرئيس الأميركي شخصيّاً بتعاطيه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
سلاح من دون ضمانات
فعليّاً، لم يُقدّم الموفد الأميركي في محطّته الثالثة ضمن سياق مهمّته لنزع سلاح “الحزب” أيّ جديد، حيث كرّر معادلة: “سلّموا السلاح من دون ضمانات”. الأهمّ أنّ توسيع بارّاك دائرة لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيّين، وتلبيته لدعوات الغداء أو العشاء، أخرَج وساطته تماماً من دائرة السرّيّة والتكتّم على قاعدة: “قالت واشنطن ما لديها، والكرة في الملعب اللبناني”.
مع ذلك، وعلى الرغم من التهويل الذي رافق زيارته، وتحليل مضمون مواقفه إلى درجة الإيحاء بأنّنا “رُمينا في فمّ التنّين الإسرائيلي” وبإقفال باب التفاوض نهائيّاً، أعاد الموفد الأميركي التذكير بأمرين أساسيَّين، ستكشف الأحداث المقبلة وَحدها مدى جدّيّتهما ودقّتهما:
– كرّر بارّاك مقولته إنّ اتّفاق وقف الأعمال العدائية، تاريخ 27 تشرين الثاني 2024، “لم ينجح، وهناك أسباب لعدم نجاحه، وهذا جزء ممّا نحاول جميعاً أن نحلّه”. وهو ما يعني أنّ واشنطن لا تزال تعطي فسحة زمنيّة للمفاوضات في شأن التزام الطرفين، الإسرائيلي و”الحزب”، الاتّفاق لكن عبر خارطة زمنيّة مُلزِمة للبنان.
هذا مع العلم أنّ المذكّرة الرئاسية التي سلّمها رئيس الجمهورية جوزف عون إلى الموفد الأميركي لم تتضمّن جدولاً بالتواريخ لتسليم السلاح، بل تعهّدات بتسليمه، وفق مراحل محدّدة، تترافق مع الالتزامات المطلوبة من الجانب الإسرائيلي.
في هذا السياق، حين سئل بارّاك عمّا إذا سمع من الرئيس بري اقتراحاً في شأن هدنة الـ15 يوماً، ما يتيح حصول خطوات متزامنة بين الطرفين، أجاب: “نعم هناك اقتراح”. لكن بارّاك أعاد التذكير مراراً “باتفاق تشرين الثاني الموجود أصلاً، وضرورة إزالة التحدّيات (العقبات) أمام الاتفاق. نحن نمضي قدماً بهذا الاتجاه، والدليل أنني هنا”، مؤكداً أنّ “حكومتكم تسعى لحل سلمي، وهي قامت بعمل جيد. نحن على الدرب الصحيح، واعتقد أنّ هناك تحسّناً في ما يتعلّق بالتوصّل إلى منهجية للتخفيف من التشنّجات على مستوى الحزب وإسرائيل والحكومة”.
– رسّم بارّاك الحدود بشكل واضح بين الدور الأميركي والهدف النهائي، أي “السلام في المنطقة”. إذ قال: “نحن نحاول أن نساعد، ونستخدم تأثيرنا ونفوذنا، ونرشد جميع الأفرقاء، أي فقط نوع من التأثير للعودة إلى النموذج الذي تريدونه جميعاً. ليست هناك عواقب، نحن هنا فقط للمساعدة، وإذا لم يحصل تسليم السلاح الذي هو مسألة داخلية، فسيكون ذلك مُخيّباً للآمال. المسألة تعود لكم، وللحكومة، ومن المهمّ أن يصل الجميع إلى خلاصة ضروريّة: فهم أكبر وسلام مع الجيران كي تكون الحياة أفضل”.
بين بارّاك والشّرع
يحدث ذلك في ظلّ امتعاض لم يتمكّن موفد واشنطن إلى سوريا من إخفاء ملامحه من مجريات الأحداث السوريّة، والدور الإسرائيلي فيها، مع عدم تقديمه مبرّرات مُقنعة لاسترسال إسرائيل في اعتداءاتها على لبنان من دون رادع.
لن يكون، بالتأكيد، مُستحَبّاً للإدارة الأميركية، في الوقت الذي يدعو موفدها السلطة في لبنان إلى الاقتداء فوراً بالتجربة السوريّة، رؤية الصواريخ الإسرائيلية تدكّ وزارة الدفاع السورية ومؤسّسات رسمية وأمنيّة في قلب دمشق، أو معاينة وقوع مجازر حَصَدت في ساعات قليلة أكثر من ألف قتيل، ولا تزال حِممها تهدّد عرش استقرار نظام أحمد الشرع الساعي، الذي تدعوه واشنطن إلى سلام دائم مع إسرائيل!
ملاك عقيل